من الشائعات إلى العُنف: دور التضليل في تصعيد الكراهية ضد المهاجرين في ليبيا


المقدمة:

إثر تصريحات رسمية ليبية مثيرة للجدل وتقارير حول خطط لترحيل مهاجرين وتوطين فلسطينيين، انتشرت الشائعات والمعلومات المضللة في الفضاء الرقمي الليبي. أثار هذا التوتر مخاوف متصاعدة حول مخططات التوطين التي تُهدد التركيبة الديموغرافية والسيادة الوطنية، مما دفع إلى إطلاق حملات رقمية غير مسبوقة.

 

يُسلط تقرير الضوء على خلفية الأزمة المتأججة والادعاءات المتداولة حول التوطين التي تهدف إلى تأجيج الرأي العام. تكشف الشبكات التي تنشر في تأجيج خطاب الكراهية عن سرديات متطرفة استهدفت المهاجرين، ووظفت أساليب تضليل تستغل المخاوف الاقتصادية والأمنية والاجتماعية. تهدف هذه السرديات إلى تغذية دعوات العنف والترحيل ضد المهاجرين الأفارقة، مما قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد. تستغل هذه الحملات الرقمية القلق المتراوح بين شائعات توطين الفلسطينيين وخطاب الكراهية المتصاعد لتغذية خطاب الكراهية ضد المهاجرين.

السياق العام

شهدت ليبيا تصاعدًا في التوتر الداخلي والخارجي بدءًا من مارس 2025، إثر تداخل قضايا المهاجرين والتوطين المزعوم، مما أدى إلى موجة من الغضب الرقمي والاحتجاجات.

 

في 9 مارس 2025، أشعلت تصريحات وزير الحكم المحلي، بدر الدين التومي، حول إمكانية دمج المهاجرين، واجتماعه مع رئيسة بعثة المنظمة الدولية للهجرة (IOM)، فتيل الغضب الشعبي. سرعان ما تصاعدت هذه التطورات إلى ادعاءات كاذبة حول خطط سرية لإعادة التوطين برعاية الدولة. زاد التوتر بعد بيان مفتي الديار العامة، الصادق الغرياني، الذي خلط بين مصطلحي “إعادة التوطين” و”الاندماج الإنساني”، محذرًا من “تلاعب ديموغرافي بأيادٍ أجنبية”. أسهم هذا الخلط في إطلاق حملة رقمية شرسة وممنهجة ضد المهاجرين على وسائل التواصل الاجتماعي.

 

بالتزامن مع الجدل المحلي، أشعل تقرير لشبكة “إن. بي. سي نيوز” الأمريكية في مطلع مارس 2025 أزمة خارجية زعم التقرير أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب درست خطة لنقل حوالي مليون فلسطيني من قطاع غزة بشكل دائم إلى ليبيا، وتمت مناقشتها مع قيادات ليبية في الشرق والغرب مقابل الإفراج عن مليارات الدولارات الليبية المجمدة قوبلت هذه المزاعم برفض ليبي رسمي وشعبي قاطع وموحد لتحويل البلاد إلى وطن بديل وتصفية القضية الفلسطينية.

 

أدت هذه التصريحات الرسمية والإشاعات إلى انتشار خطاب الكراهية والمعلومات المضللة رقميًا، مما أسفر عن دعوات للعنف واعتقالات تعسفية استهدفت المهاجرين (بمن فيهم النساء والأطفال). كما استُهدفت منظمات المجتمع المدني المعنية بملف الهجرة، مما اضطر العديد منها لتعليق عملياتها. بلغت الأزمة ذروتها مع احتجاجات على مستوى البلاد بدأت في 20 مارس 2025 تحت شعار “حركة مناهضة إعادة توطين المهاجرين” للمطالبة بترحيل المهاجرين.

السرديات

تحول الغضب في الفضاء الرقمي الليبي إلى سرديات حادة وُصِف فيها المهاجرون بـ “جيوش صامتة” و”غُزاة يهددون الأمن القومي الليبي”، وانتشرت تحت شعارات مثل #المد_الأفريقي_يبتلع_المدن_الليبية.

 

تُشكل المخاوف الديموغرافية والوجودية المحور الأساسي لهذه السرديات، حيث يُنظر إلى الهجرة على أنها خطر استراتيجي يُهدد هوية ومستقبل ليبيا. يتم تضخيم أعداد المهاجرين ليُزعم تجاوزها الملايين، مع التحذير بأن الليبيين قد يتحولون إلى أقلية في بلادهم. تتفاقم هذه المخاوف بالتركيز على تزايد دخول النساء، خاصة من دول جنوب الصحراء الكبرى، والإشارة إلى تزايد ولادات النساء الأفريقيات في المدن الليبية وارتفاع معدل إنجابهن، مما يُلقي بضغط هائل على المستشفيات والخدمات الصحية.

 

على الصعيدين الأمني والاجتماعي، تركز السرديات المتداولة على شيطنة المهاجرين عبر اتهامات مباشرة تشمل؛ وصفهم بالمشعوذين، واتهام المهاجرات بالانخراط في ممارسات مُخلّة بالآداب والرقص في الشوارع، إلى جانب اتهامات بارتكاب الجرائم، بما في ذلك السرقة والتزوير وقيادة شبكات الدعارة. تُقدّم هذه الاتهامات المهاجرين كتهديد لأمن واستقرار المجتمع، وسببًا في انتشار الأمراض والأوبئة.

 

اقتصاديًا، يبرز الخطاب الشائع رفضه القاطع لمصطلح “العمالة الوافدة”، مُعتبرًا إياه تلاعباً لغوياً لتبييض ما يُسمّونه “الغزو”. يؤكد هذا الخطاب على أن المهاجرين دخلوا زحفاً من الصحراء بلا أوراق رسمية ولا يعملون بعقود قانونية، مما يُشكّل منافسة غير عادلة للمواطن الليبي ويستنزف الوظائف والموارد التي هي حق للشباب الليبيين. ويلخص هذا الخطاب المتشدد الموقف بضرورة تطبيق الصرامة مع جميع المهاجرين، مشدداً على أن الأمن القومي لليبيا لا يعرف عربياً ولا مسلماً، ويرى أن الحل يكمن في الضبط الصارم للحدود والترحيل الفوري للمخالفين.

الصورة 1 تظهر منشورًا يمثل تأجيجًا موجّهًا ضد النساء المهاجرات في ليبيا، غالبًا عبر اتهامات اجتماعية أو أخلاقية.

الصورة 2: تُظهر منشورًا يدعو إلى طرد المهاجرين الأفارقة ويبرر ذلك بأسباب تتعلق بزيادة تواجدهم والتهديدات المزعومة.

الصورة 3: تظهر منشورًا يوثق حملة خطاب الكراهية ويربطها مباشرة بقضية المواطنة الليبية والسيادة الوطنية.

لم يتوقّف هذا التوسع العدائي عند المهاجرين الأفارقة، بل طال أيضًا الوجود الفلسطيني الرسمي في البلاد أيضًا. فقد رُصدت مطالبات شعبية صريحة بـ إقفال السفارة الفلسطينية وطرد السفير الفلسطيني. ووُجّهت إليهم اتهامات حادّة بكونهم “أكبر عدو يهودي صهيوني إسرائيلي” و “زحف على منازل الّليبيين” :

الصورة 4: تُظهر منشورًا يعكس تأجيجًا ضد السفارة والقضية الفلسطينية في سياق مزاعم التوطين المزعومة.

الصورة 5: تظهر منشورًا يعكس تأجيجًا آخر ضد القضية الفلسطينية ورفضًا لتحويل ليبيا إلى وطن بديل.

على الرغم من الغليان الرقمي وحركات الاحتجاج المؤججة التي أدت إلى العنف والمُلاحقات ضد المهاجرين، لم يمر هذا المسار العدائي دون ردود فعل مناهضة. ظهرت أصوات حقوقية وأخلاقية ترفض التحوّل نحو التمييز والعُنف، مؤكّدةً على ضرورة التمييز بين حق الدولة في تنظيم الهجرة والمخاطر الإنسانية للتحريض الجماعي. وحذّرت هذه الأصوات من أن شيطنة المهاجرين تفاقم الانقسام المجتمعي وتؤدي إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وشكّل هذا الموقف المُضاد دعوة للتعامل مع ملف الهجرة من منظور إنساني وقانوني، بعيداً عن السرديات المتطرفة التي تستغل المخاوف الشعبية لتحقيق مكاسب سياسيّة.

حملات التضليل:

بالتزامن مع خطاب الكراهية والمخاوف المتصاعدة من التوطين والمهاجرين في ليبيا، شُنت حملة رقمية واسعة النطاق اُستُخدم فيها التضليل بشكلٍ مُكثّف بهدف تأجيج الرأي العام والتصعيد والتهويل، جرى في هذه الحملة استغلال صور وادعاءات مضللة وملفقة، والتلاعب بسياقها لتضخيم المشهد بشكلٍ هائل في ظل مخاوف التوطين، الأمر الذي غذّى العنف والتحريض عليه.

 

رصدنا أسلوب تضليل يهدف إلى دعم شائعة التوطين الفلسطيني بشكل مباشر عبر التأطير الخاطئ، فقد تم تداول ادعاء يزعم وصول 1800 أسرة فلسطينية من رام الله إلى مطار مصراتة عبر رحلاتٍ قادمة من الأردن، ووُصف هذا الحدث بأنّه “سرطان توطين الأجانب في ليبيا”.

 

ولدعم هذا الادعاء المضلل، جرى تداول صورة قديمة تُظهر ازدحام المسافرين في مطار مصراتة، لكنّ الحقيقة هي أن الصورة تعود إلى عام 2017 ونُشرت آنذاك في تقرير يوضّح الازدحام عقب إغلاق مطار طرابلس. يؤكّد هذا الأمر نزع الصورة من سياقها الزمني لخدمة سردية التّوطين الحاليّة، خاصة مع عدم التّوصل إلى أي مصدر رسمي يثبت وصول هذا العدد الضخم من الأسر الفلسطينية.

الصورة 6: تُظهر صورة لا علاقة لها بالموضوع تُستخدم بشكل مضلل (ازدحام مسافرين في مطار مصراتة) لتضخيم أزمة التوطين أو الهجرة.

كما رصدنا أسلوب تضليل اعتمد على التلاعب بالسياق لتوظيف مشكلة الإسكان في ليبيا وتحويلها إلى أداة تحريضٍ مُباشرة على التوطين، حيث تم تداول نداءات تحريضية دعت الّليبيين (خاصّةً العائلات المتضرّرة، والباحثين عن سكن، ومن يُعانون من غلاء الإيجار) إلى التوجه نحو الوحدات السّكنية في الدعوة الإسلامية “لانتزاع حقوقهم” . عزّزت هذه النداءات ادّعاءً مفاده أنّ الدولة تريد تمليك هذه الوحدات للمهاجرين الأجانب بناءً على أوامر من الاتحاد الأوروبي، وأن هذا التمليك يهدف إلى توطينهم.

في المقابل أوضحت الأجهزة الأمنية الليبية أن الزيارة الرسمية لمسؤولي الاتحاد الأوروبي للمركز المعنيّ كانت تهدف إلى دعم المبادرة الليبية لتعزيز العودة الطوعية الآمنة، وليس التوطين. هذا التناقض يكشف مدى تضليل الحملة بتشويه غرض المبادرات الرسمية.

الصورة 7: تظهر ادعاءً مضللًا يزعم وجود تعاون حكومي سري لتوطين المهاجرين في ليبيا، بهدف إثارة الرأي العام.

كما رصدنا استخدم بياناتٍ مُلفّقة وأرقامٍ مُبالغٌ فيها لتغذية المخاوف من تغيير ديموغرافي وشيك، حيث تم تداول إحصائيات مزوّرة تزعم أن عدد السكان في ليبيا يبلغ 7.6 مليون ليبي مقابل أعداد هائلة للمُقيمين الأجانب بلغت 4.9 مليون مصري، و1.78 مليون سوري، و740 ألف فلسطيني، بالإضافة إلى 5 ملايين من الأفارقة من مختلف الجنسيات. الهدف من هذه الأرقام المفبركة إيهام الرأي العام بأن الليبيين على وشك أن يصبحوا أقلية في بلادهم.

وبالعودة إلى المصادر الرسمية، أكّدت مصلحة الإحصاء والتّعداد الليبية أنّ إجمالي عدد السّكان في البلاد هو 7,5 مليون نسمة فقط، كما تشير تقارير المنظمة الدولية للهجرة ( IOM) إلى أن إجمالي عدد المهاجرين من جميع الجنسيات في ليبيا لا يتجاوز 667 ألف مهاجر فقط، هذه الأرقام الرّسمية تُثبت أنّ الأرقام المليونية المتداولة للمقيمين الأجانب هي مُبالغة ضخمة تهدف إلى تأجيج خطاب التوطين والتحريض على العنف.

الصورة 8: تظهر ادعاءً يزعم أرقامًا مضللة ومبالغًا فيها لأعداد المهاجرين في ليبيا، لتعزيز المخاوف الديموغرافية.

الإدانات الدولية

لم يمرّ العنف المُتصاعد وخطاب الكراهية في ليبيا، في ظلّ التصعيد الداخلي وحملات التضليل، دون ردود فعلٍ دوليّة ومحليّة؛ ففي 19 مارس 2025، أدانت المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب (OMCT) بشدّة التصعيد المقلق في خطاب الكراهية، وكراهية الأجانب والعنف ضدّ المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى. وأشارت المنظمة إلى أن الحملة التحريضيّة على وسائل التواصل الاجتماعي أدّت إلى دعوات لترحيل المهاجرين والعنف ضد المنظمات العاملة في مجال الهجرة، مما خلق مناخاً من الخوف والعداء يشمل جميع طالبي اللجوء واللاجئين.

محليًّا؛ انضمّت منظمة رصد الجرائم في ليبيا (رصد) إلى الإدانة، محذّرة من أنّ تصاعد الخطاب وحملات التضليل تؤجّج التمييز والعنصريّة، ممّا يُعرّض هذه الفئة الهشة لمخاطر جسيمة من العنف وانتهاكات حقوق الإنسان.